فصل: تفسير الآيات (1- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.سورة البينة:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

القول في تأويل قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} [1- 3].
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: جحدوا نبوة النبي صلوات الله عليه بعنادهم بعد ما تبينوا الحق منها {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} أي: اليهود والنصارى الذين عرفوه وسمعوا أدلته وشاهدوا آياته، لم يكونوا هم {وَالْمُشْرِكِينَ} أي: وثنيِّ العرب {مُنفَكِّينَ} أي: عن غفلتهم وجهلهم بالحق، ووقوفهم عندما قلدوا فيه آباءهم، ولا يعرفون من الحق شيئاً {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي: الحجة القاطعة المثبتة للمدعي، وهي هنا النبي صلى الله عليه وسلم، فمجيئه هو الذي أحدث هذه الرجة فيما رسخ من عقائدهم وتمكن من عوائدهم، حتى أخذوا يحتجون لعنادهم ومناكرتهم، بأنه كان شيئاً معروفاً لهم، يَصلون إليه بما كان لديهم، ولكنه ليس بمستحق أن يتبع، فإن ما هم فيه أجمل وأبدع، ومتابعة الآباء فيه أشهى إلى النفوس وأمتع. تلك البينة التي تعرفهم وجه الحق هي: {رَسُولٌ مِّنَ اللَّهِ} أي: محمدٌ صلى الله عليه وسلم {يَتْلُو صُحُفاً مُّطَهَّرَةً} وهي صحف القرآن المطهرة من الخلط وحشو المدلّين، فلهذا تنبعث منها أشعة الحق حتى يعرفه طالبوه ومنكروه معاً.
{فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ} أي: مستقيمة لا عوج فيها. واستقامة الكتب اشتمالها على الحق الذي لا يميل إلى باطل {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]، والكتب التي في صحف القرآن ومصاحفه، إما أن تكون هي ما صح من كتب الأولين كموسى وعيسى وغيرهما، مما حكاه الله في كتابه عنهم، فإنه لم يأت منها إلا بما هو قوي سليم. وقد ترك حكاية ما لبّس في الملبّسون إلا أن يكون ذكره لبيان بطلانه، ولهذا لم يجد الجاحدون لرسالته- عليه السلام- من أهل الكتاب سبيلاً إلى إنكار الحق، وإنما فضلوا عليه سواه أن هي سور القرآن، فإن كل سورة من سوره كتاب قويم، فصحف القرآن أو صحائفه وأوراق مصحفه تحتوي على سور من القرآن هي كتب قيمة. ولما كان لسائل أن يسأل: إذا كان هؤلاء الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين، وقد انفكوا عن ذلك الظلام المطبق، وبدا لهم من الحق ما عرفوه كما يعرفون أبناءهم، فما بالُهم لم يؤمنوا بهذا الحق الذي جاءهم؟ أجاب الحق تعالى بأن أهل الكتاب قد جاءتهم البينة والحجة القاطعةُ على الحق الذي لا يختلف وجهه، بما أوحى الله به إلى أنبيائهم، وكان من حقهم أن يسترشدوا بكتبهم في معرفة سبيله حتى لا ينحرفوا عنه، فإذا عرض لأحدهم شبهة رجع في كشفها إلى العارف بمعاني الكتب، ثم كان عليهم أن يحرصوا على تعلم معانيها وفهم أساليبها ويحافظوا عليها حتى لا يضللهم فيها مضلل، لكن هذه البينة لم تفدهم شيئاً، فإنهم اختلفوا في التأويل وتفرقوا في المذاهب، حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند أهل المذهب الآخر. وكان ذلك بغياً منهم، واستمرراً في المراد وإصراراً على ما قاد إليه الهوى. وهذا هو قوله تعالى:

.تفسير الآيات (4- 5):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} [4- 5].
{وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ} أي: على ألسنة أنبيائهم. فهكذا كان شأنهم في النبي صلى الله عليه وسلم جحدوا بينته كما جحدوا بينة أنبيائهم بتفرقهم فيها وبعدهم بالتفرق عن حقيقتها، فإن كان هذا شأن أهل الكتاب في بينتهم وبينتنا، فما ظنك بالمشركين، وهم أعرق في الجهالة وأسلس قياداً للهوى منهم؟ وقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا} أي: والحال أن أهل الكتاب ما أمروا بلسان أنبيائهم وكتبهم {إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: الإذعان والخضوع، وذلك بتنقيته من أن يشركه فيه شيء، لا واسطة ولا مال، ولا كرامة ولا جاه {حُنَفَاء} أي: متبعي إبراهيم عليه السلام، أو على مثاله. وأصله جمع حنيف بمعنى المائل المنحرف، سمي به إبراهيم عليه السلام لانحرافه عن وثنية الناس كافة {وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ} أي: الإتيان بها، لإحضار القلب هيبة المعبود وترويضه بالخشوع، لا أن تكون مجرد حركات ظاهرة، فإن ذلك ليس من الصلاة في شيء البتة {وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ} أي: بصرفها في مصارفها التي عينها الله تعالى.
{وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} أي: الكتب القيمة، أو دين الأمة القيمة المستقيمة. ومعنى الآية: أن أهل الكتاب قد افترقوا، ولعنت كل فرقة أختها، وكان افتراقهم في العقائد والأحكام وفروع الشريعة، مع أنهم لم يؤمروا ولم توضع لهم تلك الأحكام إلا لأجل أن يعبدوا الله ويخلصوا له عقائدهم وأعمالهم، فلا يأخذونها إلا عنه مباشرة، ولا يقلدون أهل الضلال من الأمم الأخرى، وأن يخشعوا لله في صلاتهم، وأن يصلوا عباد الله بزكاتهم. فإذا كان هذا هو الأصل الذي يرجع إليه في الأوامر، فما كان عليهم إلا أن يجعلوه نصب أعينهم، فيردوا إليه كل ما يعرض لهم من المسائل ويَحُلُّوا به كل ما يعترض أمامهم من المشاكل. ومتى تحكم الإخلاص في الأنفس، تسلط الإنصاف عليها، فسادت فيها الوحدة، ولم تطرق طرقها الفرقة، هذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب، فما نقول في حالنا؟ أفما ينعاه كتابنا الشاهد علينا بسوء أعمالنا، في افتراقنا في الدِّين وأنْ صرنا فيه شيعاً، وملأناه محدثات وبدعاً؟ بهذا الذي تقدم عرفت أن الذين كفروا هم الذين أنكروا رسالة النبي صلى الله عليه وسلم عند دعوتهم إلى قبول ما جاء به. وإن {مِنْ} في قوله {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ} للتبعيض. وأن معنى لم يكونوا منفكين:
أي لم يكن وجه الحق لينكشف لهم، فيقع الزلزال في عقائدهم، فينفكوا عن الغفلة المحضة التي كانوا فيها، حتى تأتيهم البينة. ويجوز أن يكون المراد من {الَّذِينَ كَفَرُواْ}- والله أعلم- أولئك الذين جحدوا شيئاً من دين الله تعالى عندما جاءهم ولم ينظروا في دليله، أو أعرضوا عنه بعدما عرفوا دليله، سواء كانوا من مشركي العرب أو من أهل الكتاب، وإن آمنوا بعد ذلك وصدقوا. فأراد الله أن يذكر منَّته على من آمن من هؤلاء، فبيّن أن الذين كفروا- أي: جحدوا ما أوجب الله على عباده أن يعتقدوه عنه من صفاته وشرائعه من أهل الكتاب ومشركي العرب- لم يكونوا براجعين عن كفرهم وجحودهم هذا، حتى يأتيهم الرسول فيبين لهم بطلان ما كانوا عليه من الكفر، فيؤمنوا. فما أعظم فضل الله عليهم في إرساله رسوله إليهم! وهذا وجه آخر غير الذي قدمناه في معنى الذين كفروا وانفكاكهم. وبذلك أو هذا ظهر معنى {حَتَّى} وبطل جميع ما يَهذي به كثير من المفسرين الذين أضلهم التقليد عن الرأي السديد، فصعّبوا من القرآن سهله، وحرموا من فهمه أهله. انتهى كلام الإمام نقلناه من أول السورة إلى هنا بالحرف لنفاسته، ولكونه أحسن ما فسرت به، وقاعدتنا التي انتهجناها في هذا التفسير أن نؤثر في معاني آياته أحسن ما قيل فيها، فلذلك سميناه محاسن التأويل، هدانا الله إلى أقوم السبيل.

.تفسير الآية رقم (6):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} [6].
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أي: بالله ورسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، فجحدوا نبوته {مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ} أي: شر من برَأه الله وخلقه. قال الإمام: لأن منكر الحق- بعد معرفته وقيام الدليل عليه- منكر في الحقيقة لعقل نفسه، مهلك لروحه، جالب الهلاك لغيره.
لطائف:
الأولى: دلت هذه الآية والتي قبلها على أن عنوان المشركين، لا يتناول أهل الكتاب في عرف القرآن، بل هو خاص بالوثنيين، أعني من يدينون بالإشراك وتعدد الأرباب، فأهل الكتاب- وهم اليهود والنصارى- لا يتناولهم ذلك العنوان وإن دخل في عقائدهم الشرك؛ لأنه دخيل لا أصيل، ولذلك ينفرون من وصمة الشرك، وبسببه حل النكاح منهم دون الوثنين.
الثانية: قال ابن جرير: العرب لا تهمز البرية. وبترك الهمزة فيها قرأتها قراء الأمصار، غير شيء يذكر عن نافع بن أبي نعيم، فإنه حكى بعضهم عنه أنه كان يهمزها، وذهب بها إلى قول الله {مِّن قَبْلِ أن نَّبْرَأَهَا} وأنها فعيلة من ذلك، وأما الذين لم يهمزوها، فإن لتركهم الهمز في ذلك وجهين: أحدهما: أن يكونوا تركوا الهمز فيها كما تركوه من الملك، وهو مفعل، من ألك، أو لأكَ، ومن يزى، وترى ونرى، وهو تفعل من رأيت. والآخر: أن يكونوا وجهوها إلى أنها فعلية، من البراء وهو التراب. حكي عن العرب سماعاً فقيل: بفيك البراد، يعني به التراب. انتهى.

.تفسير الآيات (7- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [7- 8].
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ} أي: بالله ورسوله محمد صلوات الله عليه {وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ} أي: من بذل النفس في سبيل الجهاد للحق، وبذل المال في أعمال البر، مع القيام بفرائض العبادات، والإخلاص في سائر ضروب المعاملات؛ لأن إذعانهم الصحيح، ووجدانهم لذة معرفة الحق، ملّكت الحق قيادهم فعملوا الأعمال الصالحة، قاله الإمام {أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ} أي: أفضل الخليقة، لأنهم بمتابعة الحق عند معرفته بالدليل القائم عليه، قد حققوا لأنفسهم معنى الْإِنْسَاْنية التي شرفهم الله بها. وبالعمل الصالح، قد حفظوا نظام الفضيلة الذي جعله الله قوام الوجود الْإِنْسَاْنيّ، وهدوا غيرهم بحسن الأسوة إلى مثل ما هُدوا إليه من الخير والسعادة، فمن يكون أفضل منهم؟ قاله الإمام.
{جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} أي: بساتين إقامة، لا ظعن فيها، تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} أي: ماكثين على الدوام، لا يخرجون عنها ولا يموتون فيها {رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ} أي: بما أطاعوه في الدنيا، وعملوا لخلوصهم من عقابه ذلك {وَرَضُواْ عَنْهُ} لأنهم بحسن يقينهم يرتاحون إلى امتثال ما يأمر به في الدنيا، فهم راضون عنه. ثم إذا ذهبوا إلى نِعَم الآخرة، وجدوا من فضل الله ما لا محل للسخط معه، فهم راضون عن الله في كل حال. أفاده الإمام.
{ذَلِكَ} أي: هذا الجزاء الحسن وهذا الرضاء {لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} أي: خاف الله في الدنيا في سره وعلانيته، فاتقاه بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، فإن الخشية ملاك السعادة الحقيقية.
قال الإمام: أراد بهذه الكلمة الرفيعة الاحتياط لدفع سوء الفهم، الذي وقع ولا يزال يقع فيه العامة من الناس، بل الخاصة كذلك، وهو أن مجرد الاعتقاد بالوراثة وتقليد الأبوين، ومعرفة ظواهر بعض الأحكام، وأداء بعض العبادات، كحركات الصلاة وإمساك الصوم، مجرد هذا لا يكفي في نيل ما أعد الله من الجزاء للذين آمنوا وعملوا الصالحات، وإن كانت قلوبهم حشوها الحسد والحقد والكبرياء والرياء، وأفواههم ملؤها الكذب والنميمة والافتراء، وتهز أعطافهم رياح العجب والخيلاء، وسرائرهم مسكن العبودية والرق للأمراء، بل ولمن دون الأمراء، خالية من أقل مراتب الخشوع والإخلاص لرب الأرض والسماء- كلا لا ينالون حسن الجزاء، فإن خشية ربهم لم تحلّ قلوبهم، ولهذا لم تهذب من نفوسهم، ولا يكون ذلك الجزاء إلا لمن خشي ربه، وأشعر خوفه قلبه. والله أعلم.

.سورة الزلزلة:

بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 2):

القول في تأويل قوله تعالى: {إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} [1- 2].
{إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا} أي: أصابها ذلك الزلزال الشديد والاهتزاز الرهيب. فالإضافة للتفخيم أو الاختصاص، بمعنى الزلزال المخصوص بها، وهي الرجة التي لا غاية وراءها. والأقرب الأول لآية:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} [الحج: 1]، وقرئ بفتح الزاي، وقد قيل: هما مصدران. وقيل: المفتوح اسم والمكسور مصدر، وهو المشهور.
{وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا} أي: قذفت ما في باطنها من كنوز ودفائن وأموات وغير ذلك. لشدة الزلزلة وتشقق ظهرها. كقوله:
{وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} [الانشقاق: 3- 4]، والأثقال جمع ثقل، بفتحتين وهو متاع المسافر وكل نفيس مصون. وهذا على الاستعارة. ويجوز أن يكون بكسر فسكون بمعنى حمل البطن، على التشبيه أيضاً؛ لأن الحمل يسمى ثقلاً كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا أَثْقَلَت} [الأعراف: 189]، قاله الشريف المرتضى في الدرر.

.تفسير الآيات (3- 8):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [3- 8].
{وَقَالَ الْإِنسَانُ مَا لَهَا} أي: قال مَن يكون مِن الْإِنْسَاْن شاهداً لهذا الزلزال الذي فاجأه ودهشه ولم يعهد مثله: ما لهذه الأرض رجّت الرجة الهائلة، وبعثر ما فيها من الأثقال المدفونة؟!
{يَوْمَئِذٍ} بدل من إذا، أي: في ذلك الوقت {تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا} أي: تبين الأرض بلسان حالها، ما لأجله زلزالها وإخراج أثقالها. فتدل دلالة ظاهرة على ذلك، وهو الإيذان بفناء النشأة الأولى وظهور نشأة أخرى. فالتحديث استعارة أو مجاز مرسل مطلق الدلالة.
قال أبو مسلم: أي: يومئذ يتبين لكل أحد جزاء عمله، فكأنها حدثت بذلك كقولك: الدار تحدثنا بأنها كانت مسكونة، فكذا انتقاض الأرض بسبب الزلزلة تحدّث أن الدنيا قد انقضت، وأن الآخرة قد أقبلت.
{بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا} الباء سببية متعلق بـ: {تُحَدِّثُ} أي: تحدث بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث. والإيحاء استعارة أو مجاز مرسل لإرادة لازمه، وهو إحداث ما تدل به على خرابها.
وقال القاشانيّ: أي: أشار إليها وأمرها بالاضطراب والخراب وإخراج الأثقال، يعني الأمر التكوينيّ، وهو تعلق القدرة الإلهية بما هو أثر لها.
{يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتاً} أي: ينصرفون عن مراقدهم إلى موطن حسابهم وجزائهم، متفرقين سعداء وأشقياء {لِّيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ} أي: ليريهم الله جزاء أعمالهم.
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} أي: فمن عمل في الدنيا وزن ذرة من خير يرى ثوابه هنالك. والذرة النملة الصغيرة وهي مثل في الصغر. وقيل: الذر هو الهباء الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة.
{وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} أي: ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر، يرى جزاءه ثمة.
تنبيهات:
الأول: دل لفظ {مَن} على شمول الجزاء بقسميه للمؤمن وغيره.
قال الإمام: أي: ومن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره، فإنه يراه ويجد جزاءه، لا فرق في ذلك بين المؤمن والكافر. غاية الأمر أن حسنات الكفار الجاحدين لا تصل بهم إلى أن تخلصهم من عذاب الكفر، فهم به خالدون في الشقاء. والآيات التي تنطق بحبوط أعمال الكفار، وأنها لا تنفعهم، معناها هو ما ذكرنا، أي: أن عملاً من أعمالهم لا ينجيهم من عذاب الكفر، وإن خفف عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم، على بقية السيئات الأخرى، أما عذاب الكفر نفسه فلا يخفف عنهم منه شيء، كيف لا، والله جل شأنه يقول:
{وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} [الأنبياء: 47].
فقوله: {فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً} أصرح قول في أن الكافر والمؤمن في ذلك سواء، وإن كلاً يوفى يوم القيامة جزاءه. وقد ورد أن «حاتماً يخفف عنه لكرمه»، وأن «أبا لهب يخفف عنه لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم» وما نقله بعضهم من الإجماع على أن الكافر لا تنفعه في الآخرة حسنة ولا يخفف عنه عذاب سيئة ما، لا أصل له. فقد قال بما قلناه كثير من أئمة السلف رضي الله عنهم. على أن كلمة الإجماع، كثيراً ما يتخذها الجهلاء السفهاء آلة لقتل روح الدِّين، وحجَراً يلقمونه أفواه المتكلمين. وهم لا يعرفون للإجماع الذي يقوم به الحجة معنى، فبئس ما يصنعون. انتهى.
وقد سبقه الشهاب في حواشيه على القاضي، حيث ناقش صاحب المقاصد في دعواه الإجماع على إحباط عمل الكفرة. وعبارته: كيف يدعى الإجماع على الإحباط بالكلية، وهو مخالف لما صرح به في الآية؟ والذي يلوح للخاطر، بعد استكشاف سرائر الدفاتر، أن الكفار يعذبون على الكفر بحسب مراتبه. فليس عذاب أبي طالب كعذاب أبي جهل، ولا عذاب المعطلة كعذاب أهل الكتاب، كما تقتضيه الحكمة والعدل الإلهي. انتهى.
الثاني: قال في الإكليل: في هاتين الآيتين الترغيب في قليل الخير وكثيره، والتحذير من قليل الشر وكثيره أخرج عبد الرزاق عن ابن مسعود قال: هذه الآية أحكم آية في القرآن. وفي لفظ: أجمع.
وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية «الجامعة الفاذة»، حين سئل عن زكاة الحمير فقال: «ما أنزل الله فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة»:
{فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق، أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم «فقرأ عليه: {وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ}» إلخ. قال: حسبي. لا أبالي أن لا أسمع غيرها. ورواه النسائي في تفسيره.